١٧ يونيو ٢٠٢١
ذكر البيان الأمريكي الروسي المشترك بعد لقاء الرئيس الأمريكي جو بايدن والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مدينة جينيف السويسرية التي عنونتها بقمة (تأبط شر) حيث اتفق الطرفان على إطلاق حوار عاجل وموسع بين واشنطن وموسكو حول الاستقرار الاستراتيجي في أقرب وقت
في اي المساقات يمكن فهم مفهوم الاستقرار الاستراتيجي؟!
ارتبط مفهوم الاستقرار الاستراتيجي (Strategic Stability) تقليديا بعلاقة دولتين نوويتين مستقرتين وكان هذا الارتباط في السابق ملتصق باطار التنافس بين الولايات المتحدة الأمريكية (حلف شمال الأطلسي الناتو) والاتحاد السوفييتي (حلف وارسو) وارتكز المفهوم على فكرة الردع النووي المتبادل للحيلولة دون الاتجاه نحو تصعيد غير محسوب ربما ينتهي بحرب شاملة لكن مع انهيار الإتحاد السوفيتي -الذي يعتبره بوتين خطأ استراتيجي يجب عدم تكراره- وبالضرورة انهار حلف وارسو الذي كانت عماده ان الاتحاد السوفيتي يبني قوته على السلاح وبالضرورة على الحروب وبالتالي انتهت المنافسة بشكل مؤقت،
في عام ١٩٩٠ حددت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي الاستقرار الاستراتيجي بأنه عبارة عن (غياب الحوافز) لأي دولة لشن أول ضربة نووية لكن مع بداية القرن الواحد بعد العشرين تصاعدت مؤشرات تصدع الاستقرار الاستراتيجي في ظل تآكل الاتفاقيات القائمة للحد من التسلح ناهيكم عن التنافس المتزايد بين أمريكا وروسيا من جهة ودخول الصين من جهة أخرى في الوقت الذي تتراجع فيه أشكال التعاون المؤسسي وبعد انهيار الإتحاد السوفييتي قررت واشنطن أن القيود المتبادلة على سباق التسلح مع موسكو لم يعد يخدم مصالحها باعتبار أن روسيا لم تعد منافسا مُكافئا لها لذا أعلن الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش عام ٢٠٠٢ الانسحاب من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية ABM والتي طالما اعتبرتها موسكو حجر الزاوية للاستقرار الاستراتيجي على مدار ثلاثين عاما وجاء الرد الروسي عبر تطوير أسلحة هجومية استراتيجية تهدف للتغلب على أنظمة الدفاع الصاروخي الأمريكية وقد مثّلت هذه المتغيرات بداية حقبة جديدة من التنافس الأمريكي-الروسي أسفر عن العديد من التطورات لعل أبرزها إعلان واشنطن (وأعقبها موسكو) عن تعليق مشاركتها في معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى INF عام ٢٠١٩ وكانت في ذلك الوقت لا تزال الشكوك تهيمن على مستقبل المعاهدة الجديدة للحد من الأسلحة الاستراتيجية (نيو ستارت) والتي تنتهي صلاحيتها هذا العام والذي أعلن اليوم أنه سيتم العمل بها مجددا ليحد من سباق تسلح عالمي جديد،
لذا فقد تغيّر مفهوم الاستقرار الاستراتيجي بشكل جذري خلال العقد الأخير بما في ذلك أدوات منع نشوب صراع نووي وبالتالي باتت هناك حاجة ملحة لإعادة بلورة العديد من المفاهيم وفقا لمعطيات القرن الحالي للحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي،
في عام ٢٠١٦ اقترحت روسيا والصين استبدال مفهوم الاستقرار الاستراتيجي وإحلال مفهوم (الاستقرار الاستراتيجي العالمي) بدلا منه باعتبار أن المفهوم التقليدي للاستقرار الاستراتيجي والذي ينطوي فقط على الأسلحة النووية لم يعد فاعلا في السياق الدولي الراهن ويتضمن تعريف روسيا الجديد للاستقرار الاستراتيجي مفهومين رئيسيين يرتبطان بأمن شمال أوروبا يشير المفهوم الأول إلى فكرة (الحشد العسكري المفرط) والذي يُسمى (البناء العسكري) وهو مصطلح شامل لجميع الأنشطة التي تهدف إلى زيادة القوة العسكرية للدولة أما بالنسبة للمفهوم الثاني هو أن روسيا (مجبرة) على استعادة التوازن من خلال التدابير المضادة وكان دائما رد (الناتو) على تحركات روسيا يكون بشكل معتدل من خلال التدريبات العسكرية التي تعزز قدرات الدفاع الجماعي والانتشار الرمزي لكن روسيا تعتبر أن هذه الأساليب مُزعزعة للإستقرار وتتطلب المزيد من الاستجابات وتعكس ديناميكية استمرارية التوترات العسكرية في شمال أوروبا وتنظر روسيا منذ عشرينيات القرن الماضي إلى شمال أوروبا كمنطقة عازلة استراتيجية ولم تكن موسكو تنظر إلى بلدان الشمال الأوروبي نفسها على أنها تهديدات لكنها كانت قلقة من أن أرضها يمكن أن تُستخدم من قِبل قوى عظمى أخرى لمهاجمة روسيا وتعتقد موسكو أنها بدأت تفقد عمقها الاستراتيجي في المنطقة منذ عام ٢٠١٤ بسبب زيادة مشاركة الناتو في أمن شمال أوروبا وقد انعكست هذه النظرة في العقيدة العسكرية الروسية،
في عام ٢٠١٤ أقرت روسيا بأن نشر الوحدات العسكرية الأجنبية في البلدان المتاخمة لروسيا يمثل تهديدا عسكريا لموسكو وقد اعتبرت العقيدة العسكرية الروسية الجديدة أن جميع أشكال استعراض القوة أثناء التدريبات العسكرية في هذه البلدان والأراضي البحرية المجاورة لها هي بمثابة تهديدات عسكرية ولم تقتصر الاعتراضات الروسية على نشر الوحدات العسكرية أو إجراء التدريبات المشتركة بل باتت تشمل البنية التحتية العسكرية للناتو حيث اعترضت موسكو على بناء منظومة جديدة لمحطة رادار في (فاردو) في شمال النرويج حيث أن روسيا تشتبه في أنه يمكن استخدامه لنقل معلومات حول إطلاق الصواريخ الباليستية الروسية إلى نظام الدفاع الصاروخي الباليستي BMD التابع لحلف الناتو وردت موسكو على ذلك بالإعلان أن نشر رادار أمريكي في هذه المنطقة ليس شأنا للنرويج وحدها بل يتعلق الأمر بالسياق العام للحفاظ على الاستقرار والقدرة على التنبؤ في الشمال ومن ثَمَّ سوف تقوم روسيا بالرد للحفاظ على أمنها الخاص.وكثيرة هي الأمثلة على الإعتراضات الروسية على تحركات الناتو العسكرية حول الدول المحيطة بروسيا وغيرها،
وفقا للمنظور الروسي يرتكز الاستقرار الاستراتيجي بشكل أساسي على تصور العلاقات العالمية بين روسيا وحلف شمال الأطلسي ويتمخض عن هذا التفكير الاستراتيجي بأن على موسكو مواجهة جميع الإجراءات -مهما كانت صغيرة- والتي تُشكِّل تحديات لتفوقها العسكري الإقليمي وبناءا على هذا المنطق فيمكن لبضع مئات من الجنود الأمريكيين أن يتسبّبوا في سباق تسلح إقليمي لكن لا يمكن لعملية تراكم الأسلحة الاستراتيجية الروسية أن تُحدث ذلك لذلك يجب أن تدرك دول شمال أوروبا أن مفهوم روسيا عن الاستقرار الإقليمي يختلف اختلافا جوهريا عن مفهومها فقد تعتبر روسيا التعاون الدولي بين الآخرين أو حتى جهودهم للحفاظ على أمنهم الوطني مُزعزِّعا للاستقرار الروسي ونظرا لأن الهدف من إجراءات الردع الروسية هو التأثير على عملية صنع القرار، فإن الاستعداد لمواجهتها يعد أمرا أساسيا في منع هذه الإجراءات من تحقيق تأثيرها المقصود.
No comments:
Post a Comment