Monday 7 February 2022

الأزمة الأوكرانية: برلين عاصمة الحل والعقدة!

عندما توجه المستشار الألماني الفذ الراحل هيلموت كول لمدينة دريسدن الألمانية بعد ست أشهر على تحطيم جدار برلين الفاصل بين شرق وغرب الأمة الألمانية قال جملته الشهيرة: "سأجعل الجميع ينفذون الرغبات الألمانية دون ان اطلب منهم ذلك" لم يفهم أحد مقاصد كول من إطلاقه لهذه الجملة
فلسفة الألمان الممتدة منذ ما قبل بروز الإمبراطوريات الكبرى قبل الميلاد كانت معتمدة على فكرة أن معظم شعوب العالم تعمل وفقا لنظام الدخل المالي حركيا وعمليا ووفقا للعواطف والرغبات في السياق الكلامي فقط حتى أن المنظومة الفكرية الألمانية كانت متفردة جدا بصناعة السؤال والعقدة بل وان الحلول الألمانية المبتكرة كانت تتفرد بفتح الباب أمام تساؤلات أعمق واكثر تعقيدا بحيث يصبح هناك شبكة من الإشكاليات والتعقيدات التي تحتاج عقودا من العمل والحركة حتى عند النظر للفلاسفة الألمان فإن ظهورهم كان مرتبط بالتساؤلات الكبرى ويحفروا اسماءهم بأحرف ثقيلة على عملية محوها بسهولة!

‏في هذا المقال البسيط سأحاول ان أوضح بعض النقاط المتعلقة بأزمة أوكرانيا والأبعاد المتعلقة بخطوط الأنابيب وإمدادات الطاقة العالمية 
حيث أحاول التركيز هنا على بعض المحطات التاريخية المهمة التي لم ولا يتم طرحها ولكنها في نظري مهمة في سياق الأحداث
وهنا لابد السؤال ‏هل الصراع في أوكرانيا إمدادات الطاقة؟ حتما لا
وهل هو صراع تجاري؟ بالتاكيد لا 
وهنا نستعرض أهم الأحداث الاي شكلت أوكرانيا اليوم:

بعد عام ١٩١٨ وثورة البولشفيك استقلت اوكرانيا عن الإمبراطورية الروسية وهذا ما شكل صدمة في حينها حيث أن كييف كانت عاصمة الإمبراطورية الروسية ثم تلى ذلك الثورة داخل روسيا ومن بعدها الحروب الأهلية والتي شكلت الإتحاد السوفيتي لاحقا لتلك السنوات
أوكرانيا السوفييتية كانت ذات طابع جغرافي وطابع ديموغرافي أيضا وقد تكونت من خليط إجتماعي تعتبر العرقية الروسية هي الحاضرة في أوكرانيا ونتيجة لأهميتها لجوزيف ستاليت قام بمنح الأوكرانيين جزيرة القرم كبادرة حسن نية ضمن ما عرف بالأخوة السوفييتية عام ١٩٥٥ هذه الخطوة اراد من خلالها ستالين لبناء روسيا تكون قوة غير مرتبطة بالديمغرافيا الأوروبية والتقرب من الآسيوين ووضع الإتحاد السوفيتي موضع القوة العالمية التي تضم تنوع عرقي حول العالم لتعزيز وجود الشيوعية كنظام حكم مهيمن عالميا وهذه التتطلعات الستالينية لم تلغي الجغرافيا ولكنها أعادت تشكيل (بعض) التوزيعات الديموغرافية العرقية في هذه المنطقة

ما تلى تلك الفترة مرحلة اخرى لا تقل اهمية وهي فترة السباق التسليحي السوفييتي الأمريكي وصولا الى اتفاقيات (الحد من انتشار الأسلحة) في سبعينات القرن الماضي و‏يجب ان ننوه هنا ان الإرث العظيم لخطوط الأنابيب الممتدة من شتى بقاع الإمبراطورية الروسية الى أوروبا تعود الى ما قبل القرن العشرين اي منذ عام ١٨٨٠ تحديدا

‏الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغان كان له نصيب الأسد من تشكيل أوكرانيا اليوم خصوصا في فترة الحرب الباردة وبطبيعة الحال ميخائيل غورباتشوف ايضا كان قد ساهم في تشكيل اوكرانيا اليوم
‏كان تأثير ريغان قوي جدا في فترة القطبية السابقة المتمثلة في قطبي (وارسو - ناتو) كان الحلفين في صراع مستمر طيلة الحرب الباردة
‏الرئيس الأمريكي ريغان هو أول من استخدم خطوط الأنابيب كسلاح استراتيجي واقتصادي ضد المصالح السوفييتية 
ونستذكر هنا خط انابيب (Euro Siberan Pipeline) الذي فرض عليه حظرا وعقوبات اقتصادية بل أن ريغان ذهب بعيدا وفرض على أوروبا استخدام الغاز النرويجي

عندما ‏وقف الرئيس ريغان أمام جدار برلين الذي كان يمثل خط التماس بين الحلفين مناديا بهدم الجدار في ١٢ يونيو من عام ١٩٨٧ حيث دعى ريغان لسياسة (over and covert) التي تضمن دعما للانفصاليين سرا وعلانية ولتفعل هذه السياسة فرض الرئيس ريغان عقوبات اقتصادية على كل شركة أوروبية تعتمد على الغاز السوفييتي في ما سمي ب (NSDD-32) حتى أن الأوربيون أنفسهم تاثروا بتلك القرارات
‏هذا التضييق الإقتصادي كان له تأثيره على السوفييت التي عانت كثيرا من ضعف المداخيل حيث أصبح الرئيس غورباتشوف تحت ضغط هائل في وقتها وقد انشغل الإتحاد السوفيتي بمحاولة إنقاذ نفسه
حيث ‏بدأ الرئيس السوفيتي ميخائيل غورباتشوف الاحساس بالخطر الإقتصادي وهنا بدأت مرحلة دقيقة جدا حيث أن بعض المناطق السوفييتية بدأت التفكير بالانفصال عن الإتحاد السوفييتي والمناطق الأهم التي بدأت تشكل تهديدا على استمرار الإتحاد السوفيتي تمثلت بالثلاثي (روسيا-اوكرانيا-بيلاروسيا)

‏مع تولي الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية زاد الضغط على غورباتشوف وتأثرت أسعار النفط والغاز وبالتالي تراجعت القدرة التصديرية السوفييتية حيث أصبحت محدودة وهذا اعتبر ضغطا إقتصاديا خانقا على السوفييت وهنا كانت نقطة تحول تاريخية في تاريخ النفط والغاز العالمية حيث اطلق غورباتشوف برامج الانفتاح والهيكلة (غلاسنوست بيريسترويكا) ومن ضمن الأراضي التي يتواجد عليها الإتحاد السوفيتي كانت ألمانيا الشرقية وهنا كان لابد على غورباتشوف الارتماء في حضن الألمان داعيا الشركات النفطية الألمانية الى الاستثمار لدى السوفيت ‏ولم تكن الشركات البترولية الألمانية جاهزة للدخول في الحقول النفطية السوفييتية العملاقة لعدة أسباب منها اقتصادية لوجستية ومنها سياسية لذلك توجهت القيادة الألمانية الى أشقائها الفرنسين والإيطاليين فكانت شركة ايلف الفرنسية وإيني الإيطالية أول الداخلين الى الحقول السوفييتية بداية التسعينات ‏هذا الباب الذي فتحه غورباتشوف شكل أكبر نقله تاريخية في شركات النفط الغربية وأعاد تشكيل كل الشركات النفطية العالمية لاحتواء الحقول الروسية العملاقة ولكن بالنسبة للإتحاد السوفيتي فقد كان الوقت متاخرا جدا

في حينها عمت التظاهرات أوروبا الشرقية ووسط اوروبا حتى انهيار جدار برلين عام ١٩٨٩ حيث اجتمع ‏الرئيس الأمريكي بوش اجتمع مع قيادات دول الناتو بخصوص انضمام دول شرق ووسط أوروبا الى الحلف مع تقهقر حلف وارسو وفي عام ١٩٩٠ أُجبر الإتحاد السوفيتي لتسليم المانيا الشرقية الى المانيا الغربية وفي السنة التي تلتها أُعلن انهيار الإتحاد السوفيتي من خلال خطاب الرئيس غورباتشوف وبروز الدول الرئيسية (روسيا - اوكرانيا - بيلاروسيا - كازاخستان) هذه الدول هي الوريثة للرؤوس النووية السوفييتية

وهنا برز ‏الخطر الأمني على الغرب حيث لم يكن تفكك الإتحاد السوفيتي هو الخطر وحسب بل تمثل الخطر بالرؤوس النووية التي كان الإتحاد السوفيتي قد أنشأه في الدول المنفصلة عنه كأوكرانيا وما حدث في مفاعل تشيرنوبل مثلا واضحا على ذلك! 
وفي سبيل ذلك اقضى وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر معظم وقته في طائرته لزيارة روسيا واوكرانيا وبيلاروسيا لطمئنة الغرب عن مصير الرؤوس النووية وفي وقتها ‏عرضت رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر القيام بتفكيك حلف وارسو واكدت ان فجوة التفكك وخيمة وقد أصرت ثاتشر على ان الوقت غير مناسب لضم دول شرق أوروبية للناتو
من جهته رفض ‏هانز غينشر -وزير خارجية المستشار الالماني هيلموت كول- فكرة توسع حلف على حساب الآخر على ارض أوروبا وقد شدد بأن على الحلفين تحقيق التعايش الآمن المشترك ولأن ‏المانيا ببساطة كانت خط التماس الأول وأرض معظم الصراعات ولكن الألمان احسوا بأن الرغبة الأمريكية هي في توسعة وضم أعضاء جدد الى حلف الناتو

الدول الاسكندانافية مثل النرويج بدورها ربطت انضمامها لحلف الناتو بعدم استخدام أراضيها ميادين للحروب
في حين أن الوافد الجديد للبيت الأبيض في حينها ‏الرئيس الأمريكي بيل كلينتون لم تعجبه الشروط الأوروبية فجاء بمقترح (Partnership For Peace) المشاركة من اجل السلام PFP الذي اضاف شرط استخدام الأراضي الأوروبية لحلف الناتو لحفظ السلام
وعند أول زيارة له لمركز حلف الناتو قال: "لا نريد ان نضم دولا على خريطة الحلف برسم خطوط على الخريطة والا فإن ذلك سيجعل من أهم دولة بالنسبة لنا -يقصد اوكرانيا- خارج الحلف"

‏في تاريخ ٣١ من يناير عام ١٩٩٤ زار المستشار الألماني هيلموت كول البيت الأبيض فقال له الرئيس الأمريكي كلينتون صراحة أن (اوكرانيا هي العمود الفقري لمضمون الناتو) فعرف كول وقتها ان هناك أهداف أمريكية توسعية بينما الأمن الألماني الإقتصادي المتعلق بالطاقة سيصبح رهينة لهذه الأهداف الأمريكية في وقتها دخلت شركات النفط العالمية الغربية في أكبر موجة اندماجات في تاريخها تأهبا لدخول حقول النفط الروسية العملاقة ولكن الألمان شعروا بالخوف الشديد حيث أن أوكرانيا المهمة في ذلك الوقت كانت عبارة عن معبر لخطوط الأنابيب الممتدة من روسيا الى أوروبا

في عام ١٩٩٧ قرر الألمان أن يعتمدوا على إمدادات الطاقة المباشرة من روسيا تماما كما تتواجد الشركات الغربية مباشرة في روسيا وهنا تمت شراكة بين شركة غازبروم الروسية مع شركة نست الفنلندية لمد خط أنابيب مباشرة من روسيا الى المانيا وفي عهد المستشار غيرهارد شرودر
‏تأسست شركة شمال اوروبا للأنابيب بالتحديد في عام ٢٠٠١ بشراكة غازبروم الروسية وفورتوم أوند روهور الالمانية وونترشال الالمانية كان اسمها (The North European Gas Pipeline Company) حتى نهاية عام ٢٠٠٥ عندما انهى المستشار غيرهارد شرودر فترته الرئاسية واصبح بعدها رئيس مجلس إدارة الشركة بإسم نوردستريم أو خط الشمال وفي وقتها كانت ‏خسائر أوكرانيا وحلفاؤها من جراء افتتاح خط انابيب نوردستريم ١ يبلغ مليار دولار أمريكي سنويا أما خسائر أوكرانيا وحلفاؤها من جراء افتتاح خط انابيب نوردستريم ٢ بلغ ٤ مليار دولار أمريكي سنويا

‏متاعب أوكرانيا ومن استثمر في أوكرانيا لجعلها (مضيق هرمز) لغاز أوروبا لم ينتهي بل تعاظمت المخاطر في الداخل الأوكراني الذي جعل من أوكرانيا ميدان نزاع

‏في عام ٢٠٠٤ تدخلت قوى الناتو لقلب نتائج الانتخابات التي فاز بها يانكوفيتش فقررت قوى الناتو بدء الثورة البرتقالية التي نصبت يوناكشينكو زوج مستشارة الرئيس الأمريكي رونالد ريغان المسماة كاثرين شوماشينكو (مواليد شيكاغو) خريجة جامعة جورجتاون رئيسا لأوكرانيا و‏تزامنا مع الثورة البرتقالية في اوكرانيا انطلقت في جيورجيا الثورة الوردية في تلك الفترة كانت إمدادات الغاز الروسية الى اوروبا تعتمد على هاتين الدولتين بنسبة ٨٥٪ و‏لم يكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين راضيا عن هذه الاضطرابات فلجا الى تهدئة الثورات المستمرة والتي كانت تتخذ من الغاز الروسي وقود لتأجيج الصراع حيث طلب الرئيس بوتن تهدئة الأجواء الا ان وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس في ذلك الوقت اتهمته بأنه يريد استخدام الغاز كسلاح وهو ما اعتبرته تجاوز و‏في عام ٢٠٠٦ اضطرت روسيا الى عدم المخاطرة بالغاز الذي يذهب لاوكرانيا فتم قطع إمدادات الغاز حتى تهدأ الثورات

وإبان ما سمي بالربيع العربي تأجج الضغط على روسيا من خلال اوكرانيا مرة أخرى حيث في عام ٢٠١٣ انطلق هاشتاغ (EuroMaidan) اسوه بما حصل في ميدان التحرير في مصر فدخلت أوكرانيا في حالة ثورة اعتبرت روسيا ذلك تفكيكا لاوكرانيا و‏هذه المرة لم يمهل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أحدا اي فرصة فاستعان بالقوانين الدولية لحماية الروس المتواجدين في شبه جزيرة القرم أثناء تفكك اوكرانيا فأصبحت شبه جزيرة القرم أرضا روسية بصنيع المجازفات التي دخلتها أوكرانيا
‏ما دعم موقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو مذكرة التفاهم المسماة بمذكرة بودابست التي تم توقيعها عام ١٩٩٤ بين روسيا واوكرانيا وبيلاروسيا والولايات المتحدة وبريطانيا حيث اعتبر الرئيس بوتن ان تأجيج الثورات اخلال بالمذكرة وهو ما شكل تهديد سيادي وبذلك انهى اللعبة وأعاد جزيرة القرم (المهداه من قبل ستالين للأوكرانيين) لروسيا 
‏اما الحالة الاجتماعية فتبقى اوكرانيا منقسمة جدا

في الخلاصة تبقى روسيا متمددة بخطوط أنابيب تضعها على منافذ متعددة بعيدا عن مجازفات اوكرانيا ومن يدعمها ولذلك يذهب الرئيس الفرنسي إيمانوييل ماكرون اليوم وسيذهب المستشار الألماني أولاف شولز لروسيا لإبرام الإتفاقيات مباشرة مع روسيا لعدم إقحام أوروبا في أزمات هم بغنى عنها.

No comments:

Post a Comment

Das Schweigen von Bundeskanzlerin Merkel ist ebenso traurig wie es ein Spiegelbild dessen ist, was ich die dunkle Seite von Merkels politischer Persönlichkeit nenne!

Vor drei Jahren verließ die ehemalige Bundeskanzlerin Angela Merkel scheinbar freiwillig, aber nicht ganz so freiwillig Merkel hinterließ de...