عندما سئل النبي محمد في مؤتمر المدينة المنورة قبل قرابة أربعة عشر قرنا عن مفهوم الإسلام وتعريف الفرد المسلم رده حسب ما روي من الموتور من الحديث (إن صحت الرواية) "المسلم هو من سلم المسلمين من لسانه ويده" هذه الإجابة لها أبعاد لغوية (اصطلاحية وتأويلية) وسياسية واجتماعية واقتصادية وانثروبولوجية فاصطلاحا قد ترجئ كلمة مسلم إلى التسليم والخضوع والخنوع والتواضع وهي بالمناسبة تشابه نسبيا وعلى وجه التقريب المعنى العبري لكلمة كنعان والتي ترجئ لكنع وخضع إذا فتأويلا كلمة مسلم هي الخضوع والتوائم مع الجذر اللغوي لكلمة الإسلام وهي السلام ولكن بحسب علم النفس الحديث فإن كلمة السلام مرادفة للقوة فالضعيف نفسيا يلجأ للعنف في الغالب أما المسالم فهو هادئ لا يثور بل يحاول تقريب البعيد أما سياسيا فعملية السلام مرتبطة بالهدوء الداخلي الداعي للحوار والجلوس على طاولته بمسؤولية وعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن رؤية ذهاب الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات -لروحه الرحمة وعليها السلام- لزيارة الكنيست الإسرائيلي قال في معرض خطبته التاريخية الشهيرة "إن الروح التى تزهق فى الحرب هي روح الإنسان سواء كان عربيا أو إسرائيليا إن الزوجة التى تترمل هي إنسانة من حقها أن تعيش فى أسرة سعيدة سواء كانت عربية أو إسرائيلية إن الأطفال الأبرياء الذين يفتقدون رعاية الآباء وعطفهم هم أطفالنا جميعا على أرض العرب أو فى اسرائيل لهم علينا المسؤولية الكبرى في أن نوفر لهم الحاضر الهانئ والغد الجميل من أجل أن تنتج مجتمعاتنا وهى آمنة مطمئنة" في هذه الكلمات التي فاجئ فيها الرئيس السادات الإسرائيليين أنفسهم حتى أن رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير قالت لرئيس السادات حينها "كنت دائما تدعوني بالعجوز وأنا كذلك أتمنى أن أرى ذلك اليوم الذي نعيش فيه بسلام بين جيراننا -تقصد (العرب)- بغض النظر من سيوقع من جانبنا" في هذا المثال تحديدا وضع الرئيس السادات الجانب الإسرائيلي في زاوية السلام التي لم يتوقعوها يوما من الحشود العربية الثائرة بجهل حينها،
أما بالعودة لكلمة المسلم اجتماعيا فهي عبارة عن شقين شق داخلي وشق خارجي في كلا الشقين لم ينجز المسلمين أي نقطة تقدم حتى وإن اعتبرنا تلك المحاولات النادرة للمصارحات والمصالحات والإصلاحات ولربما أبرزها حركة الإمام محمد عبده بعد زيارته التاريخية للجمهورية الفرنسية لكنها على الأرض لم تحقق المرجو منها ومنذ أكثر من قرن والحديث عن الإصلاح الديني بهذه الصفة (الإصلاح الديني) يتكرر على ألسنة المعنيين بحركة النهوض الإسلامي بعد أن استوعب معظم المسلمين حجم التخلف المروع الذي يغرق فيه العالم الإسلامي على امتداد جهاته الأربع في كل قطْر مركزي من هذا العالم المنكوب بتخلفه الطويل يتكرر هذا العنوان التقدمي (الإصلاح الديني) الذي يعكس هموم اللحظة التاريخية على نطاق واسع مما يوحي بأن ثمة إجماعا نسبيا على أن (نمط التصورات الذهنية الدينية) التي تحكم مجمل الوعي العام للمسلمين هو المسؤول عن هذا التخلف أو هو على أقل تقدير المسؤول عن (طبيعة الاستجابة) للتحدي الحضاري المعاصر تلك الاستجابة التي تحدد طبيعتها مسار الخيارات الكبرى التي تصنع التاريخ الخاص و الواقع الخاص حيث يحاول العالم الإسلامي اليوم الخروج من (العصور الوسطى الإسلامية) التي تشبه العصور الوسطى الأوروبية التي تجاوزتها أوروبا منذ أربعة قرون أو أكثر وهنا أعود لجملة الرئيس التونسي الراحل الرائع الحبيب بورقيبة "يلزم علينا تمريس العقلية الحضرية ماذا يعني وجود ملايين من المسلمين المنخدعين ببعض السلوكيات التي أوهموا بأنها إلهية" وحديث الرسول المذكور آنفا يعطي بصمة مهمة في الأعماق بأن أي إنسان سواء كان مسلما أو غير ذلك وكف يده ولسانه (عوامل الشر والخير على حد سواء) -بحسب علم النفس الحديث- صفة السلام (المسلم)،
وتدريجيا فبعد الإصلاح اللغوي لكلمة الإسلام فإن هذا التوجه قد يصل بنا إلى قاعدة ذهبية تصلح بأن يطلق عليها الحصان الأسود وهي "حددوا مصطلحاتكم تستقم حياتكم" وبعد المعالجة الحقيقية لكلمة الإسلام سياسيا واجتماعيا فإننا بالتأكيد سنصل لحالة من التفكير العميق بالنمو والإزدهار الاقتصادي الذي قد يصل لمفهوم "الرفاه الإجتماعي" وهو عنوان لكتاب اصدره المستشار الألماني لودفيغ إيرهادت وهو بالضرورة سيخرج الإنسان المسلم من عقلية المستهلك إلى عقلية المنتج المصنع كما حصل تماما مع الأوروبي الذي عاش في عصور وسطى ظلامية لم يكن تأثيره مناطقيا وحسب بل جعل العالم يستجيب له في هذه الحركة الإصلاحية فتخيلوا معي قليلا لو أننا ننجز هذا الإصلاح في منطقتنا الذي حتما سيكون منعطفا تاريخيا حضاريا فإننا بالضرورة سنفرض على قوى إقليمية وربما دولية أن تغير نهجها ليس فقط تجاهنا كعرب ومسلمين على حد سواء بل حتى في داخل مجتمعاتهم،
وكرد على المستويات السابقة من الإصلاح فإن الاستجابة الأنثروبولوجية الأكثر عمقا ستشرع في البحث عن تجديد شامل لنظرة الكلية للعربي والمسلم على حد سواء ولو نكون أكثر دقة فإن نمو وتطور العربي سيكون هو العامل والمحرك واللاعب الرئيس في تطوير المسلمين من غير العرب فالأصل في الإسلام هي تلك العظمة الفلسفية في اللغة العربية وهنا دور القاعدة الذهبية التي أطلقت عليها (الحصان الأسود) "حددوا مصطلحاتكم تستقم حياتكم" فإذا ماهي وثيقة مكة ٢٠١٩؟ وما هي فرص نجاحها؟ وهل ستستطيع الأصولية الدينية أن تحد من تقدمها على المدى القريب والبعيد؟!،
وثيقة مكة المكرمة هي وثيقة كُتبت في مكة المكرمة (قبلة المسلمين الأولى والتي تعتبر في العرف السياسي القبلة الشرعية والوحيدة) حيث وقعت في الخامس والعشرون من شهر رمضان للعام ١٤٤٠هـ الموافق للثلاثين من مايو لعام ٢٠١٩م على هامش المؤتمر الدولي حول قيم الوسطية والاعتدال الذي نظمته رابطة العالم الإسلامي (المنظمة الشرعية والوحيدة عن الأحكام والتشريعات والتصورات الإسلامية) في المملكة العربية #السعودية لتمثل دستورًا تاريخيًا لتحقيق السلام وحفظ قيم الوسطية والاعتدال في البلدان الإسلامية وتنص الوثيقة على مكافحة الإرهاب والظلم والقهر ورفض انتهاك حقوق وكرامة الإنسان وتأصيل قيم التعايش بين الأديان والثقافات والأعراق والمذاهب المختلفة في الدول الإسلامية وأقرّ الوثيقة ١٢٠٠ شخصية إسلامية من ١٣٩ دولة من مختلف المذاهب والطوائف الإسلامية سيسأل باحث هنا كيف يكون ل١٢٠٠ شخصية إسلامية دور في الإصلاح الديني الخاص بالإسلام كونهم كانوا جزءا كبيرا من المشكلة يرد على هذا السؤال المهم بالآتي الحركة الإصلاحية في الكنيسة التي لقبت باللوثرية من قادها أحد أبرز القساوسة وهو القس الألماني مارتن لوثر والتي أدت بالضرورة للحركة الإصلاحية الأوسع وهي الحركة الإنسية والتي حولت الأوروبي من إنسان مخدر مستهلك لإنسان منتج مبتكر وإن حركة هاسكالا الإصلاحية اليهودية من قادها هو الحاخام اليهودي موسى مندلسون واعتبر في حينها النبي الثالث لليهود بعد النبي موسى وموسى بن ميمون إذا فمن المهم سايكولوجيا أن تكون المشكلة ذاتها جزءا من الحل،
لماذا اعتبرت وثيقة مكة المكرمة ٢٠١٩ حركة مشابهة لحركة هاسكالا والحركة الإنسية؟! تضمنت الوثيقة ١٧ بندًا بإقرار من ١٢٠٠ شخصية إسلامية مُمثَلين في مرجعيتهم الدينية واستمدت مكوناتها من وثيقة المدينة المنورة التي عقدها النبي محمد قبل قرابة أربعة عشر قرنًا على ضوء التنوع الديني والثقافي والعرقي في العالم الإسلامي وتتلخص أبرز بنود وثيقة مكة في الآتي:
التأكيد على أن المسلمين جزء من هذا العالم بتفاعله الحضاري يسعون للتوصل مع مكوناته جميعها لتحقيق صالح البشرية وأن الاختلاف في العقائد والأديان والمذاهب سُنّة كونية (ضرورة طبيعية للتقدم).
الإقرار على أن البشر متساوون في إنسانيتهم وينتمون إلى أصل واحد (وهو الإعلان الذي أعلن إسلاميا منذ قرون أن لا فضل لعربي على أعجمي إلى بالتقوى) وكان شرط المفاضلة ليس الدين ولا العرق ولا اللون ولا الإنتماء بل بالأخلاق وشروطه التي قد تكون إسلامية أو غيرها.
التصدي لممارسات الظلم والعدوانية والصدام الحضاري والكراهية (جملة أن لغة أهل الجنة هي عربية وأنكم خير أمة أخرجت للناس) هذه البضرورة جملة مخدرة للعقل العربي والمسلم على حد سواء فهذه تجعل العربي والمسلم ينظر على أن حركة تطور وإزدهار من خارج الدول الإسلامية على أنها هبة إلهية له وهي بالضرورة تشجع على التراخي والخمول وبالتالي إلى الظلم والعدوانية والكراهية وهو ما يعرف اصطلاحا بالصدام الحضاري إحادي الجانب،
فالسؤالل سيبقى مفتوحا هل ستنضم وثيقة مكة لحركتي هاسكالا وحركة الإنسية؟! وما مدى نجاحها خصوصا في ظل تكتل صلب للأصولية الإسلامية؟!،
لربما نعي و نتعلم يوما.
#الإصلاح_الديني_في_الإسلام
🤔🤔🤔
No comments:
Post a Comment